العلاقة مع غير المسلمين في القرآن 2

ننقل هنا نصوصا من سورة المائدة , و سورة المائدة و حسب كل المختصين بعلوم القرآن , هي آخر سورة نزلت على النبي , قبل

وفاته بثلاثة أشهر

ولذلك فإن هذه السورة وضعت القواعد النهائية للتعامل مع غير المسلمين

يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ
المائدة 19

يخبر الله أهل الكتاب أنه قد أرسل لهم رسولا , وهو النبي محمد , وقد أرسله لهم بشيرا و نذيرا , و أن الله يرسل كل فترة رسولا حتى يذكر الناس و يوقظ النائم الكسلان

يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ
المائدة 41

بعض أهل الكتاب من أهل المدينة , وقد كانوا يهودا , كانوا يتلاعبون بالدين , فتارة يؤمنون , و تارة يسارعون في الكفر , والنبي محمد عندما يرى تصرفاتهم , يحزن لترددهم هذا و تلاعبهم
يخبر الله نبيه هنا أن لا يحزن لتصرفات هؤلاء و ترددهم

وتصف الآية بعض تصرفات هؤلاء المترددين بين الكفر و الإيمان , و أنهم يحرفون كلام الله عن معانيه و مقاصده , وكونهم ممن يحرفون كلام الله عن معانيه , فهذا يعني :  أن الكلام هنا ليس عن أناس عاديين , و إنما عن رجال الدين , فرجال الدين وحدهم هم الذين كانوا يتولون شرح الكتب الدينية و إيصالها إلى الناس

يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِ

ومن المؤكد أن الخلاف هنا يدور حول التوراة , و ليس حول القرآن , فهم من اليهود , و قد خاطبهم الله بلفظ أهل الكتاب , و سماهم يهودا , و اليهود عموما لا يقبلون التحاكم إلا إلى التوراة , وهذا يشير إلى أن الخلاف بين النبي محمد و اليهود كان حول فهم التوراة و تطبيقها , و ليس حول القرآن

واليهود في زمن النبي لم يعترفوا بالقرآن كتابا منزلا من الله , وبالتالي من غير المعقول أن يكون خلافهم مع النبي حول القرآن وتطبيق أوامره

ولو قلنا أن الخلاف هنا يدور حول القرآن , فهذا يضعنا أمام مشكلة , وهي أن اليهود قد قاموا بتحريف كلام الله ( القرآن) من بعد مواضعه , وهذا كلام مرفوض و غير مقبول لعدة أسباب

من أهما: أن القرآن في ذلك الوقت لم يكن كتابا متداولا بين الناس , بل كان سورا متفرقة لدى الصحابة , وكل شخص يمتلك صفحات من القرآن

وأن القرآن هو كتاب خاص بالمؤمنين من أتباع النبي محمد , ولا علاقة لليهود به

وهنا إشارة و اعتراف ضمني بصحة و سلامة التوراة ككتاب ديني مقدس , و أن النبي محمد كان يناضل و يكافح لأجل التطبيق السليم للتوراة بين اليهود الساكنين في المدينة

يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْ
رجال الدين هؤلاء من اليهود , الذين كانوا يعيشون في المدينة المنورة بسلام و أمان , و يدل على ذلك , أنهم كانوا يسارعون في الكفر , و يظهرون شعائرهم , و يقولون لاتباعهم , إذا قال لكم محمد هكذا فاقبلوا منه , و إن قال لكم غير ذلك فارفضوه , وهذه حرية مطلقة في الشعائر الدينية في المجتمع الذي بناه النبي محمد

 و رفض و قبول لما جاء به بكامل الحرية , بدون أي خوف من عقاب ناتج عن الحرية الدينية المطلقة

ومع التردد بين الكفر و الإيمان , وتحريف كلام الله عن معانيه و مقاصده , لم يطلب الله من هؤلاء اليهود الانتقال إلى الإسلام , وترك أديانهم , ولم يطلب الله من نبيه قتال هؤلاء لأنهم كفرة , و يحرفون كلام الله

لكن الله توعد هؤلاء يوم القيامة بالعذاب الشديد , بسبب ترددهم بين الإيمان و الكفر , و بسبب تحريفهم لكلام الله

و الإيمان و الكفر هنا في هذه الآيات تحمل دلالات مختلفة عن الدلالات المتداولة في الكتب الدينية الإسلامية , و مع تحفظنا على معانيها المتداولة , لكننا سنحاول فهم طريقة التعامل القرآنية مع هؤلاء

و سنقوم في مقالات قادمة بشرح مفصل لمعاني هذه الكلمات كما هي في القرآن , بغض النظر عن معناها الحالي المتداول

سَمَّٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ
المائدة 42

تصف الآية هنا هؤلاء الناس المترددين من اليهود , و أنهم يأكلون المال الحرام , و في الآية السابقة تحدثت عن ترددهم بين الكفر و الإيمان , و تحريفهم لكلام الله , ومع كل هذه الأفعال و الأشياء السيئة التي يفعلونها , طلب الله من نبيه أن يحكم بينهم إذا جاؤوا إليه ليحلوا مشاكلهم , و يجب أن يكون حكمه بينهم بالعدل

وقد خير الله نبيه أن يحكم بينهم , و أن يترك الحكم , و إن تركه فإنهم لن يستطيعوا إيذاءه

ولفظ (فلن يضروك شيئا) يشير على كون هؤلاء موجودون في المدينة , و قادرون على التسبب بأذية للنبي محمد

و الكلام الذي تورده كتب السيرة و الحديث عن اختفاء غير المسلمين من المدينة قبل وفاة النبي غير صحيح , لأن الآية هنا تتحدث عن وجودهم و قدرتهم على الإيذاء , وهؤلاء قطعا لن يكونوا أفرادا معدودين و ضعفاء

الآيات التي أوردناها تشير إلى عدة أشياء نستطيع تثبيتها هنا

وجود كبير لغير المسلمين في المدينة قبل وفاة النبي محمد , وهو يناقض ما يرد في كتب السيرة عن اختفائهم

لغير المسلمين الحرية الدينية الكاملة , وحتى أنهم يستطيعون فعل أشياء كثيرة لا ترضي الله ورسوله ضمن المجتمع المسلم الذي اسسه النبي

لا يتدخل القرآن في حياة غير المسلمين , بل العكس هو الصحيح , حيث يكون وجوده إيجابيا , ويعمل على تصحيح الأخطاء الموجودة , وينصح برفق وهدوء , ويحل مشاكل غير المسلمين بما يستطيع

لا يجبر غير المسلمين على تغيير أي من أفكارهم أو عقائدهم أو إخفائها ضمن المجتمع المسلم

لم يرد في هذه الآيات أي إشارة على وجوب ترك هؤلاء لدينهم واتباع الدين الجديد (الإسلام)

لم يرتب القرآن على مسارعة هؤلاء بالكفر أي عقوبة دنيوية , بل حصر العقاب بالله وحده يوم القيامة