العلاقة مع غير المسلمين في القرآن الكريم 3
يمكن وصف سورة المائدة بأنها سورة التسامح أو سورة الانفتاح على الآخر , وهذا شيء طبيعي , لأنها كلمة الله الأخيرة لهذه الأرض التي تبحث عن سعادتها
يمكن لأي قارئ للقرآن الكريم أن يلاحظ أن سورة المائدة , هي سورة التسامح و الانفتاح على الآخر , وهي آخر سورة نزلت على رسول الله , وهي تعني : أن رسالة الله إلى الأرض قد تمت , و ذلك بالتأسيس للانفتاح اللامحدود على الآخر
نحاول هنا في هذه السطور متابعة أوامر الله في بناء المجتمع المثالي الذي يريده الله على هذه الأرض
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿43﴾ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴿44﴾ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
سورة المائدة
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
تصف الآية مشاعر و أفكار اليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة في جوار النبي محمد , و الآية هنا تمتدح التوراة , الكتاب العظيم و الهدي المبين , الذي أرسله الله لهذه البشرية
والله يقرر و يؤكد أن حكم الله و مراده موجود في التوراة , واليهودي الذي يترك التوراة و يذهب لغيرها , فإن في إيمانه خلل شديد , حسبما تصف الآية ذلك
ولقد جاءت الآية بصيغة الاستغراب , فكيف يلجئ اليهود للنبي ليحكم بينهم في خلافاتهم ؟ مع أن لديهم التوراة , والتوراة بما فيها من نور و هداية ربانية , كافية لحل أكبر و أعظم المشاكل
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ
يصف الله التوراة بأنها هدى ونور عظيم , و هذا تأكيد ثاني على أهمية التوراة و مكانتها في القرآن الكريم , و المؤمن الذي يعتقد أن التوراة كتاب غير صحيح أو غير معترف به , فإنه يخالف القرآن صراحة , و يجب عليه أن يراجع موقفه في هذه الناحية
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
يصف الله من لم يحكم بما في التوراة بأنه من الكافرين , وهذه نقطة تحتاج منا إلى التوقف قليلا
المنظومة الفقهية الدينية تصف من لم يحكم بالقرآن بأنه كافر , استنادا لهذه الآية , ومن الواضح أن هذا الاستدلال خاطئ , فالآية هنا تتحدث عن اليهود و كتابهم التوراة , وأن على اليهود تطبيق حكم الله الموجود في التوراة
و المنظومة الفقهية الحالية تحتاج إلى مراجعة دقيقة , لأن هذا تحريف واضح لكلام الله
نقطة أخرى يجب الإشارة إليها , وهي وجود غير المسلمين في المدينة قبل وفاة النبي محمد , فالسيرة النبوية و الأحاديث النبوية تشير إلى اختفاء غير المسلمين من المدينة كمجموعات كبرى , و بقائهم كأفراد , لكن هذه الآيات تناقض هذه الأحاديث
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
الآية هنا تخاطب اليهود , وتأمرهم بعدم الخوف من الناس , و أن عليهم إظهار حكم الله بدون خوف, ومن المؤكد أن هذا الخطاب لم يكن موجها لأفراد , و إنما لمجموعات كبيرة , و بعض هؤلاء اليهود ليس لديه رغبة في تطبيق أحكام التوراة , و أن لديه قوة و سطوة جعلت البعض يخاف من النطق بكلام الله و حكمه
فهذه آيات تتحدث عن مجتمع عريض من اليهود بكافة شرائحه , من رجال دين و أناس عاديين و أناس أشرار لديهم القدرة على إيذاء الناس الصالحين
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وهذا تأكيد آخر على كون التوراة هي حكم الله و كلامه العظيم , و يذكر الله هنا نموذجا لما هو موجود في التوراة من الأوامر
والله يقول ( وكتبنا عليهم فيها ) , يقصد التوراة و اليهود , و الآية هنا تتحدث عن اليهود , و تناقش علاقتهم بكتابهم , و احكام دينهم , ولا يوجد أي إشارة للمسلمين أو القران
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
القرآن هنا منفتح على الآخرين و يهتم بشؤونهم , و يحاول مساعدتهم في الوصول إلى الله , حتى لو كانوا غير مسلمين , و ينصح القرآن هنا غير المسلمين , بالاهتمام بكتبهم و دينهم
وغير المسلمين الذين لا يهتمون بدينهم و لا يلتزمون بما ورد في كتبهم المقدسة , فهم حسب التصنيف القرآني , كفار و ظالمون
من التعليقات السابقة على الآيات الكريمة نستطيع استخلاص بعض النتائج
الأحاديث النبوية التي تتحدث عن عدم وجود غير المسلمين في المدينة قبل وفاة النبي , هي أحاديث غير صحيحة , لأنها تخالف القرآن
حسب الآيات السابقة , هناك وجود كبير لغير المسلمين في المدينة
القرآن كتاب عام للبشرية كاملة , وهو يخاطب المسلمين و غير المسلمين
يهتم القرآن بغير المسلمين , و يصف غير المسلمين الذي لا يلتزمون بأديانهم , بأنهم أناس كافرون و ظالمون
لفظ الكفر لا يعني حسب هذه الآية غير المسلمين , و إنما يعني كل شخص غير ملتزم بدينه , بغض النظر عن دينه
في هذه الآيات ثناء عظيم على التوراة , و أنها نور وهدى من الله , و أن التحاكم إليها هو واجب على اليهود
الكلام عن بطلان التوراة أو عدم صحتها , هو كلام عار عن الصحة , و هو يخالف القرآن