أحكام الردة عن الإسلام و الكفر بالله بعد الإيمان 3

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ۖ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ﴿50﴾ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿51﴾ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴿52﴾ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ۖ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿53﴾ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿54﴾ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿55﴾ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ

سورة التوبة

تأملات في الآيات

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ۖ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ

هؤلاء الكفار يعيشون مع النبي في المدينة , وعندما تصيب النبي مصيبة يفرحوا بها و يشمتوا , و لكن يحزنون إن كان النبي في خير ونعمة

ومن الواضح من الآية أن هؤلاء يظهرون مشاعرهم تجاه النبي بكل حرية ولا يخافون أن يعاقبهم النبي على إبداء مشاعرهم

لا بد من التذكير أن هذه السورة نزلت في غزوة تبوك عام 9 هجري , أي بعد أن كان للنبي دولة و جيش و شرطة و قادر على تطبيق أي عقوبة بحق أي شخص , و قبل وفاة النبي بسنة ونصف تقريبا

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا

يعلم الله نبيه كيفية التعامل مع هؤلاء , فيأمره أن يقول لهم : أن الخير و الشر بيد الله , و فرحكم أو شماتتكم بنا لن تغير شيئا من أمر الله

من الملاحظ أن الله لم يأمر نبيه بقمع هؤلاء و محاسبتهم على إبداء شماتتهم بالنبي , وحزنهم على الأمور الجيدة التي تصيبه , بل أمر الله نبيه أن يرد عليهم بالقول فقط , و تصحيح مفاهيمهم الدينية

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ۖ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ

وهنا تأتي العقوبة من الله تعالى , و يخبر نبيه أنه لن يتقبل منهم أي عمل صالح سيفعلونه , و أن كل نفقاتهم لن تكون في صالحهم يوم القيامة , حتى لو أنهم أنفقوها في سبيل الله

و سبب عدم قبول أي نفقة منهم , هو أنهم فاسقون

وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ

و أحد أسباب عدم قبول أي نفقة منهم , هو أنهم كفروا بالله و رسوله و يتكاسلون عن الصلاة و ينفقون في سبيل الله وهم كارهون للإنفاق

وهنا يشير الله بكلام واضح لا شك فيه أن هؤلاء كفار بالله و رسوله

فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ

وهنا عقوبة اخرى بحق هؤلاء , وهي ان الله سيجعل أموالهم و اولادهم سبب شقاء لهم

و الأسرة التي يعيش الآباء فيها في تخبط فكري  وديني , ولا يستطيعون اتخاذ مواقف واضحة و حاسمة حيال هذه المواضيع , ستعيش بلا شك حالة عذاب , و يكون المال و الأولاد فيها مصدر عذاب للآباء

أسرة غير مستقرة , تنتج أطفال غير مستقرين , فينتج عنها حالة فوضى وعذاب للآباء و الأبناء

من التحليل المبسط السابق نستطيع استنتاج بعض الملاحظات

صرحت الآيات بما لا يقبل الشك أن هؤلاء الناس كافرون بالله و رسوله

يعيش هؤلاء الكفار في المدينة مع النبي بسلام , ولا يخافون من إبداء مشاعرهم تجاه النبي و الدين و النظام الاجتماعي كله

لا يوجد في مجتمع المدينة الذي أسسه النبي أي إكراه على فكر و دين معين , و للجميع حرية الرأي و التفكير و التعبير عن آرائهم , حتى لو كانت هذه الآراء متعلقة بشخص النبي

كل الأحاديث التي تتكلم عن وجود إرهاب فكري في عصر النبي هي أحاديث باطلة لأنها تخالف هذه الآيات

كل الأحاديث التي تتكلم عن اختفاء غير المسلمين من المدينة , و أن مجتمع المدينة لا يحتوي إلا مسلمين صالحين هي احاديث باطلة ولا شك

حرية الاعتقاد هي حرية مقدسة في القرآن , حتى لو كان هذا الاعتقاد مما يصادم الإسلام و يناقضه

أشارت الآيات إلى حصول أذى مباشر بحق النبي , و إساءة علنية , ومع كل ذلك لم يأمر الله نبيه باتخاذ أي إجراء تأديبي بحق هؤلاء , و بالتالي نستطيع الجزم بأن كل الأحاديث التي تتكلم عن عقوبة المسيء للنبي هي احاديث باطلة لأنها تخالف هذه الآيات

أحكام الردة عن الإسلام و الكفر بالله بعد الإيمان 2

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴿81﴾ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿82﴾ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ۖ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ﴿83﴾ وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴿84﴾ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿85﴾ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴿86﴾ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿87﴾ لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿88﴾ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

سورة التوبة

من المتفق عليه بين علماء القرآن أن سورة التوبة نزلت في غزوة تبوك ,في رجب من عام 9 هجري, أي قبل وفاة النبي بسنة ونصف تقريبا

و معرفة توقيت هذه السورة مهم جدا , لمعرفة أن النبي كان قادرا على تطبيق الأحكام الدينية , لأنه كان يقود دولة و لديه القدرة على تطبيق أي حكم

تأملات في الآيات

وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ

تذكر الآية هنا بعض الناس الذين كفروا بالله و رسوله , أي خرجوا من الدين كاملا بدون أي شك , ووصفت الآية هؤلاء أنهم مع كونهم كفار فقد ماتوا وهم فاسقون

عقوبة هؤلاء الكفار الذين ماتوا وهم كافرون وفاسقون , أن لا يصلي عليهم النبي ولا يقف على قبره و يدعو له

وهؤلاء مجموعة وليسوا افرادا قلائل , و أي شخص يموت من هذه المجموعة فعلى النبي أن لا يصلي عليه ولا يدعو له.

وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ

كان النبي يتأمل في هؤلاء خيرا في سبيل الدعوة إلى الإسلام , و يرى أموالهم و أولادهم و يتمنى أن تكون في سبيل الدعوة إلى الله , و الله يقول لنبيه هنا

يا محمد , هذه الأموال و الأولاد التي عندهم , هي سر تعاستهم و آلامهم في الدنيا و الآخرة

وهؤلاء الناس المترددون السيئون يمتلكون بيوتا غير هادئة ولا مستقرة , و تكون بيوتهم مصدر عذاب و شقاء لهم , والله يبين لنبيه هذا الأمر , وأن التردد الديني لدى هؤلاء هو مصدر عذابهم في الدنيا ,  وسيموت هؤلاء وهم كافرون بالله

و الآية تخاطب النبي و تحكي له عن أناس لديهم أموال و أولاد كثيرة , ولا تتكلم عن شخص واحد كان مسلما و كفر

وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ

مازالت الآيات تصف هؤلاء الذين كانوا مسلمين و كفروا بالله و نبيه , و تصف هذه الآية رد فعلهم عندما كانت تنزل آية تأمر بالجهاد مع رسول الله , ولا بد من التنويه أن هؤلاء كانوا مسلمين و قد كفروا بالله و رسوله , أي ارتدوا عن الإسلام

فهؤلاء كانوا يحضرون نزول القرآن عند النبي , فإذا جاء الأمر بالجهاد انسحبوا إلى بيوتهم و تركوا النبي وحده

و تصف الآية هنا حال القادرين على فعل شيء يفيد الدعوة إلى الله

لدينا من هذه الآيات إشارات كثيرة تفيد أن أعداد هؤلاء الكفار كثيرة , و أنهم ليسوا أشخاصا قليلين, و هنا نورد بعض الأمثلة

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا

فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ۖ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ

وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ

وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ

اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ

وكل هذه الآيات تتكلم عن مجموعة كبيرة من الكفار المرتدين عن الإسلام , الذين كانوا يعيشون مع النبي في المدينة بسلام

كلام المفسرين عن أن المقصود من هذه الآيات هم شخص واحد هو كلام باطل و تحريف لكلام الله

في هذا الجزء من هذه الآية ( فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ ) دليل لا يقبل الشك أنهم كانوا مجموعة كبيرة , و الله يخبر نبيه فيقول : فإن رجعت إلى قسم من هؤلاء الكفار و طلبوا منك الخروج للقتال معك , فلا تأذن لهم

من التحليل السابق نستطيع استنتاج بعض الملاحظات

عقوبة الكفر بالله و الردة عن الإسلام هي الحرمان من  دعوات النبي للمرتدين , و أن النبي لن يصلي على هؤلاء صلاة الجنازة و لن يدعو لهم عند موتهم

تشير الآيات إلى أن هؤلاء المرتدين كانوا يعيشون بسلام في المدينة المنورة مع النبي , و كانوا يحضرون مجالس النبي و يستمعون له و يناقشونه و يرفضون أوامره علانية و يخذلونه

لا بد من التذكير بأن الآيات من سورة التوبة , التي نزلت قبل وفاة النبي بسنة و نصف , أي بعد أن كان للنبي دولة و جيش و شرطة قادرة على تطبيق أحكام الكفر بالله و الردة عن الإسلام

المجتمع في زمن النبي محمد في المدينة كان مجتمعا منفتحا و يحوي كل التيارات الدينية , وحتى الرافضين للإسلام و المرتدين عنه, وكان هؤلاء يتكلمون بكل صراحة بكل ما تحويه صدورهم

لم تطلب الآيات من النبي اتخاذ أي عقوبة دنيوية بحق هؤلاء , فالإكراه في الدين ليس من الإسلام , و تكميم الأفواه و إجبار الناس على فكر معين ولو كان الإسلام , هو شيء مرفوض في القرآن بكل وضوح

الأحاديث التي تتحدث عن إجبار الناس على دين معين أو على البقاء في الإسلام هي أحاديث باطلة و غير صحيحة, لأنها تخالف هذه الآيات بكل وضوح

من مثل

عن عكرمة، قال: أُتي على رضي الله عنه بزنادقة، فأحرقهم؛ فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تعذبوا بعذاب الله)، ولقتلتهم.

 (من بدَّل دينه فاقتلوه)

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ

أحكام الردة عن الإسلام و الكفر بالله بعد الإيمان 1

لا يمكن أن تكون العلاقة مع الله بالإكراه , وهذا المعنى يتم تأكيده بشكل دائم في القرآن,
هذا هو المقال الأول عن أحكام الردة عن الإسلام و الكفر بالله

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿54﴾ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴿55﴾ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ

سورة المائدة

نقوم بالتركيز على سورة المائدة في البحث و التفسير و استنتاج الأحكام الدينية , لأنها آخر سورة نزلت على رسول الله , و بمعنى أدق : قبل وفاة النبي بثلاثة أشهر
أي أن هذه السورة قد رسمت الملامح النهائية للمجتمع المسلم و قواعده و قوانينه قبل انتقال النبي إلى جوار ربه

تأملات في الآيات

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ

في هذا الجزء من الآية تهديد واضح للمؤمنين من أصحاب رسول الله , بأنهم ان تركوا الدين و عادوا إلى أديانهم السابقة , فإن لهم عقوبة قاسية من الله , و هذه العقوبة هي : أن الله سيستبدلهم و يأتي بأناس خير منهم

و يظهر أن هذه الجماعة هي مجموعة كبيرة , لأن الله توعدهم بأن يستبدلهم ب (قوم) و ليس بأفراد

و الخطاب منذ البداية كان: يا أيها الذين آمنوا , وهو يخاطب عموم المؤمنين , هذا يشير إلى وجود أعداد ليست قليلة من الذين يريدون ترك الإسلام

فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ

يعدد الله هنا صفات القوم الآخرين , الذين سيأتي الله بهم بديلا عن المؤمنين المرتدين

يحبون الله و الله يحبهم , و أذلة على المؤمنين و أعزة على الكافرين , و يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون أحدا إلا الله

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ

يذكر الله هؤلاء المؤمنين الذين يفكرون بترك الإسلام بأمور أساسية : و هي أن ولاء المؤمن يجب أن يكون لله و لرسوله و للجماعة المؤمنة , وليس لفئات أخرى تتربص الشر بالمؤمنين

و المشكلة الرئيسية لدى هؤلاء , هي مشكلة الولاء لله و لرسوله و لقضية الدين الجديد , فلفظ الولاء للجماعة المؤمنة تكرر أكثر من مرة في وصف مشكلة هذه المجموعة

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ

يكرر الله على مسامع هذه المجموعة , أن الولاء للجماعة المؤمنة هو الولاء الصحيح و المطلوب من المؤمنين جميعا , و أن الجماعة المؤمنة هي الجماعة التي ستفوز بالنهاية

ومن المؤكد حسب كل علماء القرآن , أن هذه الآيات نزلت بعد استقرار الأمور و إقامة الدولة الإسلامية التي يقودها النبي محمد عليه الصلاة و السلام , و كان النبي قادر على إيقاع أي عقوبة بحق من يريد ترك الإسلام , ومع كل ذلك , لم يأمر الله نبيه بعقوبة أي شخص , ومن أراد الدخول في الإسلام فله ذلك , ومن أراد الخروج فله ذلك

من التحليل السابق للآيات نستطيع استنتاج بعض الملاحظات

عقوبة الاستبدال هي العقوبة الوحيدة لحركة الردة عن الإسلام  ولا يوجد أي عقوبة دنيوية على تارك الإسلام

لم يأمر الله نبيه باتخاذ أي عقوبة بحق هؤلاء الذين يريدون ترك الإسلام و الردة عنه , مع قدرة النبي على فرض أي عقوبة , وإنما أخبرهم: أنهم إن ذهبوا فسيأتي من هو خير منهم

لا مجال للإكراه في الدين , سواء داخل الإسلام أو خارجه , وكل علاقة مع الله تفرض بالقوة فهي تعارض الإسلام

روى البخاري حديثا منسوبا للنبي : من بدَّل دينه فاقتلوه , ومن الواضح أن هذا الحديث يتعارض مع الآيات السابقة , وهو حديث باطل بلا شك و لا أصل له

العلاقة مع غير المسلمين في القرآن 4

تحتاج كتب الفقه و التفسير إلى إعادة نظر و تدقيق , لأن معظم مافيها هو تحريف واضح لكلام الله , وهنا نعرض جزءا بسيطا من التحريف الظاهر لكلام الله لأجل مصالح مادية أو سياسية أو غير ذلك- العلاقة مع غير المسلمين في القرآن- المسيحيين نموذجا

وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴿46﴾ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
سورة المائدة

تتكلم هذه الآيات المباركات عن العلاقة مع غير المسلمين – المسيحيين – و سنحاول هنا تتبع أوامر الله في كيفية التعامل معهم

وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ

ارسل الله نبيه عيسى ليصدق ما جاء في التوراة , و ليؤكد على عظمتها , و قد آتاه الله الإنجيل كذلك , و الإنجيل هو كلام الله و هو هدى ونور ,  وكل تعاليم الإنجيل هي تأكيد على حرمة و عظمة التوراة

وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ

يأمر الله في القرآن المسيحيين أن يلتزموا أوامر الإنجيل , لأن ما في الإنجيل هو مراد الله , ولم يأمر الله المسيحيين بالتحول إلى الإسلام أو تطبيق القرآن , ولا يوجد أي إشارة لإجبار المسيحيين على الدخول في الإسلام , ولا توجد دعوة للمسيحيين للدخول في الإسلام , لأن دينهم باطل و كتابهم غير صحيح و باطل

في هذه الآية اعتراف كامل و واضح بالمسيحية كدين صحيح , و اعتراف بالإنجيل ككتاب عظيم من الله , وكل الدعوات التي تطالب المسيحيين بالتحول للإسلام هي دعوات باطلة و غير صحيحة لأنها تخالف القرآن

وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
تصف هذه الآية المعرضين عن كتاب الله الإنجيل بأنهم فاسقون , وكل مسيحي يرفض الإنجيل فهو فاسق بحسب الآية

وفي كتب الفقه الإسلامي يجد القارئ أن الفقهاء و مفسري القرآن حرفوا هذه الآية عن معناها المراد من الله , و قالوا: أن من لم يطبق القرآن فهو من الفاسقين , مع أن الآية تتكلم و بكل وضوح و صراحة عن المسيحيين و الإنجيل

من الآيات السابقة و التحليل المرافق لها نستطيع استخلاص بعض النتائج

اعترفت الآيات السابقة بالمسيحية كدين عظيم و صحيح

اعترفت الآيات بشكل واضح بأن الإنجيل كلام الله , وهو نور وهدى من الله , والكلام عن بطلان الإنجيل أو تحريفه هو كلام باطل , و مخالفة لكلام الله في القرآن

لا توجد أي دعوة للمسيحيين لترك دينهم و التوجه للإسلام , بل هناك دعوة واضحة للتمسك بدينهم و اتباع أوامر الله في الإنجيل

كل مسيحي غير ملتزم بدينه فهو فاسق حسب توصيف القرآن له

العمل الدعوي لتحويل المسيحيين للإسلام هي دعوة باطلة ومخالفة للقرآن

يجب مراجعة السيرةالنبوية و كتب الحديث , و التي تتحدث عن عدم وجود لغير المسلمين في المدينة قبل وفاة النبي , فالآيات تتحدث هنا عن وجود كبير للمسيحيين , و ليس عن أفراد , و دعوة المسيحيين هنا لتحكيم الإنجيل في حياتهم ليست دعوة لأفراد , و إنما دعوة لمجموعات كبيرة لها حضورها ووجودها و كنائسها

من الواضح و المؤكد أن التوراة في زمن نبي الله عيسى لم تكن محرفة , وكانت كتابا صحيحا , لأن الله أنزل الإنجيل على عيسى تصديقا لما في التوراة , ومن يقول بتحريف التوراة فعليه أن يثبت وقوع التحريف بعد ظهور نبي الله عيسى , و سنقوم في مقالات قادمة إيراد أمثلة من القرآن تشير و تثبت عدم وجود أي تحريف أو تغيير في التوراة في زمن النبي محمد عليه الصلاة  والسلام , وعلى المشككين في التوراة و الإنجيل أن يأتونا بآيات قرآنية تشير لبطلان و تحريف التوراة و الإنجيل

العلاقة مع غير المسلمين في القرآن الكريم 3

يمكن وصف سورة المائدة بأنها سورة التسامح أو سورة الانفتاح على الآخر , وهذا شيء طبيعي , لأنها كلمة الله الأخيرة لهذه الأرض التي تبحث عن سعادتها

يمكن لأي قارئ للقرآن الكريم أن يلاحظ أن سورة المائدة , هي سورة التسامح و الانفتاح على الآخر , وهي آخر سورة نزلت على رسول الله , وهي تعني : أن رسالة الله إلى الأرض قد تمت , و ذلك بالتأسيس للانفتاح اللامحدود على الآخر

نحاول هنا في هذه السطور متابعة أوامر الله في بناء المجتمع المثالي الذي يريده الله على هذه الأرض

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿43﴾ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴿44﴾ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
سورة المائدة

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ

تصف الآية مشاعر و أفكار اليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة في جوار النبي محمد , و الآية هنا تمتدح التوراة , الكتاب العظيم و الهدي المبين , الذي أرسله الله لهذه البشرية

والله يقرر و يؤكد أن حكم الله و مراده موجود في التوراة , واليهودي الذي يترك التوراة و يذهب لغيرها , فإن في إيمانه خلل شديد , حسبما تصف الآية ذلك

ولقد جاءت الآية بصيغة الاستغراب , فكيف يلجئ اليهود للنبي ليحكم بينهم في خلافاتهم ؟ مع أن لديهم التوراة , والتوراة بما فيها من نور و هداية ربانية , كافية لحل أكبر و أعظم المشاكل

 إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ

يصف الله التوراة بأنها هدى ونور عظيم , و هذا تأكيد ثاني على أهمية التوراة و مكانتها في القرآن الكريم , و المؤمن الذي يعتقد أن التوراة كتاب غير صحيح أو غير معترف به , فإنه يخالف القرآن صراحة , و يجب عليه أن يراجع موقفه في هذه الناحية

وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ

يصف الله من لم يحكم بما في التوراة بأنه من الكافرين , وهذه نقطة تحتاج منا إلى التوقف قليلا

المنظومة الفقهية الدينية تصف من لم يحكم بالقرآن بأنه كافر , استنادا لهذه الآية , ومن الواضح أن هذا الاستدلال خاطئ , فالآية هنا تتحدث عن اليهود و كتابهم التوراة , وأن على اليهود تطبيق حكم الله الموجود في التوراة

و المنظومة الفقهية الحالية تحتاج إلى مراجعة دقيقة , لأن هذا تحريف واضح لكلام الله

نقطة أخرى يجب الإشارة إليها , وهي وجود غير المسلمين في المدينة قبل وفاة النبي محمد , فالسيرة النبوية و الأحاديث النبوية تشير إلى اختفاء غير المسلمين من المدينة كمجموعات كبرى , و بقائهم كأفراد , لكن هذه الآيات تناقض هذه الأحاديث

فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا

الآية هنا تخاطب اليهود , وتأمرهم بعدم الخوف من الناس , و أن عليهم إظهار حكم الله بدون خوف, ومن المؤكد أن هذا الخطاب لم يكن موجها لأفراد , و إنما لمجموعات كبيرة , و بعض هؤلاء اليهود ليس لديه رغبة في تطبيق أحكام التوراة , و أن لديه قوة و سطوة جعلت البعض يخاف من النطق بكلام الله و حكمه

فهذه آيات تتحدث عن مجتمع عريض من اليهود بكافة شرائحه , من رجال دين و أناس عاديين و أناس أشرار لديهم القدرة على إيذاء الناس الصالحين

 وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ

وهذا تأكيد آخر على كون التوراة هي حكم الله و كلامه العظيم , و يذكر الله هنا نموذجا لما هو موجود في التوراة من الأوامر

والله يقول ( وكتبنا عليهم فيها ) , يقصد التوراة و اليهود , و الآية هنا تتحدث عن اليهود , و تناقش علاقتهم بكتابهم , و احكام دينهم , ولا يوجد أي إشارة للمسلمين  أو القران

وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

القرآن هنا منفتح على الآخرين و يهتم بشؤونهم , و يحاول مساعدتهم في الوصول إلى الله , حتى لو كانوا غير مسلمين , و ينصح القرآن هنا غير المسلمين , بالاهتمام بكتبهم و دينهم

وغير المسلمين الذين لا يهتمون بدينهم و لا يلتزمون بما ورد في كتبهم المقدسة , فهم حسب التصنيف القرآني , كفار و ظالمون

من التعليقات السابقة على الآيات الكريمة نستطيع استخلاص بعض النتائج

الأحاديث النبوية التي تتحدث عن عدم وجود غير المسلمين في المدينة قبل وفاة النبي , هي أحاديث غير صحيحة , لأنها تخالف القرآن

حسب الآيات السابقة , هناك وجود كبير لغير المسلمين في المدينة

القرآن كتاب عام للبشرية كاملة , وهو يخاطب المسلمين و غير المسلمين

يهتم القرآن بغير المسلمين , و يصف غير المسلمين الذي لا يلتزمون بأديانهم , بأنهم أناس كافرون و ظالمون

لفظ الكفر لا يعني حسب هذه الآية غير المسلمين , و إنما يعني كل شخص غير ملتزم بدينه , بغض النظر عن دينه

في هذه الآيات ثناء عظيم على التوراة , و أنها نور وهدى من الله , و أن التحاكم إليها هو واجب على اليهود

الكلام عن بطلان التوراة أو عدم صحتها , هو كلام عار عن الصحة , و هو يخالف القرآن

العلاقة مع غير المسلمين في القرآن 2

ننقل هنا نصوصا من سورة المائدة , و سورة المائدة و حسب كل المختصين بعلوم القرآن , هي آخر سورة نزلت على النبي , قبل

وفاته بثلاثة أشهر

ولذلك فإن هذه السورة وضعت القواعد النهائية للتعامل مع غير المسلمين

يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ
المائدة 19

يخبر الله أهل الكتاب أنه قد أرسل لهم رسولا , وهو النبي محمد , وقد أرسله لهم بشيرا و نذيرا , و أن الله يرسل كل فترة رسولا حتى يذكر الناس و يوقظ النائم الكسلان

يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ
المائدة 41

بعض أهل الكتاب من أهل المدينة , وقد كانوا يهودا , كانوا يتلاعبون بالدين , فتارة يؤمنون , و تارة يسارعون في الكفر , والنبي محمد عندما يرى تصرفاتهم , يحزن لترددهم هذا و تلاعبهم
يخبر الله نبيه هنا أن لا يحزن لتصرفات هؤلاء و ترددهم

وتصف الآية بعض تصرفات هؤلاء المترددين بين الكفر و الإيمان , و أنهم يحرفون كلام الله عن معانيه و مقاصده , وكونهم ممن يحرفون كلام الله عن معانيه , فهذا يعني :  أن الكلام هنا ليس عن أناس عاديين , و إنما عن رجال الدين , فرجال الدين وحدهم هم الذين كانوا يتولون شرح الكتب الدينية و إيصالها إلى الناس

يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِ

ومن المؤكد أن الخلاف هنا يدور حول التوراة , و ليس حول القرآن , فهم من اليهود , و قد خاطبهم الله بلفظ أهل الكتاب , و سماهم يهودا , و اليهود عموما لا يقبلون التحاكم إلا إلى التوراة , وهذا يشير إلى أن الخلاف بين النبي محمد و اليهود كان حول فهم التوراة و تطبيقها , و ليس حول القرآن

واليهود في زمن النبي لم يعترفوا بالقرآن كتابا منزلا من الله , وبالتالي من غير المعقول أن يكون خلافهم مع النبي حول القرآن وتطبيق أوامره

ولو قلنا أن الخلاف هنا يدور حول القرآن , فهذا يضعنا أمام مشكلة , وهي أن اليهود قد قاموا بتحريف كلام الله ( القرآن) من بعد مواضعه , وهذا كلام مرفوض و غير مقبول لعدة أسباب

من أهما: أن القرآن في ذلك الوقت لم يكن كتابا متداولا بين الناس , بل كان سورا متفرقة لدى الصحابة , وكل شخص يمتلك صفحات من القرآن

وأن القرآن هو كتاب خاص بالمؤمنين من أتباع النبي محمد , ولا علاقة لليهود به

وهنا إشارة و اعتراف ضمني بصحة و سلامة التوراة ككتاب ديني مقدس , و أن النبي محمد كان يناضل و يكافح لأجل التطبيق السليم للتوراة بين اليهود الساكنين في المدينة

يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْ
رجال الدين هؤلاء من اليهود , الذين كانوا يعيشون في المدينة المنورة بسلام و أمان , و يدل على ذلك , أنهم كانوا يسارعون في الكفر , و يظهرون شعائرهم , و يقولون لاتباعهم , إذا قال لكم محمد هكذا فاقبلوا منه , و إن قال لكم غير ذلك فارفضوه , وهذه حرية مطلقة في الشعائر الدينية في المجتمع الذي بناه النبي محمد

 و رفض و قبول لما جاء به بكامل الحرية , بدون أي خوف من عقاب ناتج عن الحرية الدينية المطلقة

ومع التردد بين الكفر و الإيمان , وتحريف كلام الله عن معانيه و مقاصده , لم يطلب الله من هؤلاء اليهود الانتقال إلى الإسلام , وترك أديانهم , ولم يطلب الله من نبيه قتال هؤلاء لأنهم كفرة , و يحرفون كلام الله

لكن الله توعد هؤلاء يوم القيامة بالعذاب الشديد , بسبب ترددهم بين الإيمان و الكفر , و بسبب تحريفهم لكلام الله

و الإيمان و الكفر هنا في هذه الآيات تحمل دلالات مختلفة عن الدلالات المتداولة في الكتب الدينية الإسلامية , و مع تحفظنا على معانيها المتداولة , لكننا سنحاول فهم طريقة التعامل القرآنية مع هؤلاء

و سنقوم في مقالات قادمة بشرح مفصل لمعاني هذه الكلمات كما هي في القرآن , بغض النظر عن معناها الحالي المتداول

سَمَّٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ
المائدة 42

تصف الآية هنا هؤلاء الناس المترددين من اليهود , و أنهم يأكلون المال الحرام , و في الآية السابقة تحدثت عن ترددهم بين الكفر و الإيمان , و تحريفهم لكلام الله , ومع كل هذه الأفعال و الأشياء السيئة التي يفعلونها , طلب الله من نبيه أن يحكم بينهم إذا جاؤوا إليه ليحلوا مشاكلهم , و يجب أن يكون حكمه بينهم بالعدل

وقد خير الله نبيه أن يحكم بينهم , و أن يترك الحكم , و إن تركه فإنهم لن يستطيعوا إيذاءه

ولفظ (فلن يضروك شيئا) يشير على كون هؤلاء موجودون في المدينة , و قادرون على التسبب بأذية للنبي محمد

و الكلام الذي تورده كتب السيرة و الحديث عن اختفاء غير المسلمين من المدينة قبل وفاة النبي غير صحيح , لأن الآية هنا تتحدث عن وجودهم و قدرتهم على الإيذاء , وهؤلاء قطعا لن يكونوا أفرادا معدودين و ضعفاء

الآيات التي أوردناها تشير إلى عدة أشياء نستطيع تثبيتها هنا

وجود كبير لغير المسلمين في المدينة قبل وفاة النبي محمد , وهو يناقض ما يرد في كتب السيرة عن اختفائهم

لغير المسلمين الحرية الدينية الكاملة , وحتى أنهم يستطيعون فعل أشياء كثيرة لا ترضي الله ورسوله ضمن المجتمع المسلم الذي اسسه النبي

لا يتدخل القرآن في حياة غير المسلمين , بل العكس هو الصحيح , حيث يكون وجوده إيجابيا , ويعمل على تصحيح الأخطاء الموجودة , وينصح برفق وهدوء , ويحل مشاكل غير المسلمين بما يستطيع

لا يجبر غير المسلمين على تغيير أي من أفكارهم أو عقائدهم أو إخفائها ضمن المجتمع المسلم

لم يرد في هذه الآيات أي إشارة على وجوب ترك هؤلاء لدينهم واتباع الدين الجديد (الإسلام)

لم يرتب القرآن على مسارعة هؤلاء بالكفر أي عقوبة دنيوية , بل حصر العقاب بالله وحده يوم القيامة

العلاقة مع غير المسلمين في القرآن 1

القرآن هو الكتاب الأوحد الذي رسم خطوطا عامة و عريضة و دائمة بدوام الله للتعامل مع غير المسلمين , و أوضحها بنصوص واضحة وضوح الشمس , لا تقبل تأويلا ولا تحريفا, هذه نبذة عن التعامل مع غير المسلمين

و الميزة الأساسية للقرآن الكريم هو أنه احتوى كل ما جاءت به الكتب الدينية السابقة , و أضاف عليها أبعادا إنسانية جديدة , وهذه الإضافات للبعد الإنساني في القرآن , جاءت كنتيجة طبيعية , لأن القرآن هو كلمة الله الأخيرة لهذه البشرية

و يجب أن تحتوي هذه الكلمة الأخيرة على كل التوجيهات اللازمة لاستمرار ربط البشرية بالله تعالى

نحاول في هذا المقال القصير تسليط الضوء على علاقة المسلمين بغير المسلمين كما جاء في القرآن, و سنقوم بأخذ نصوص من سورة المائدة , وهذه السورة حسبما يقول المختصون بالعلوم الدينية هي آخر ما نزل على النبي محمد قبل وفاته , وهذا يعني : أن هذا ما استقرت عليه الأمور في نهاية الدعوة إلى الدين الجديد , وهذه هي الطريقة التي يريدها الله في التعامل بين المسلمين وغيرهم

يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ
المائدة 15

يخاطب الله هنا أهل الكتاب (المسيحيين و اليهود) , و يبين لهم أنه قد أرسل لهم النبي محمد , كي يوضح و يبين لهم ما كانوا قد أخفوه من كتبهم عن الناس (التوراة و الإنجيل) , وأن مهمة النبي محمد ليست نقل أهل الكتاب من دينهم إلى الدين الجديد , و إنما أن يشرح و يوضح لهم ما هو موجود في كتبهم فقط , و ختم الله الآية بقوله , أن ما عندهم وما جاءهم من الله (التوراة و الإنجيل) هو نور و هداية من الله

يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ
المائدة 16

يكرر الله و يصف  ما أنزله على أهل الكتاب بأن فيه هداية لمن اتبع ما فيه من أوامر من الله , و أنه الوسيلة التي يخرج الناس بها أنفسهم من الظلمات إلى النور , وما في هذه الكتب المقدسة فيه الهداية إلى كل خير

لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن يُهۡلِكَ ٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ
المائدة 17

يعلم الله نبيه محمد كيفية التعامل مع غير المسلمين فيقول : قل يا محمد لأهل الكتاب : إذا أراد الله أن يهلك المسيح بن مريم و أمه و الأرض ومن فيها , فهل يستطيع منعه أحد ؟
أو هل يستطيع مقاومته أحد ؟
و الجواب قطعا : لا

لأن الله مالك كل شيء , و يملك حتى عيسى و أمه , وكل من في هذا الكون عبد لله و خاضع لمشيئته

و يناقش النبي محمد هؤلاء الذين يقولون بألوهية عيسى و أمه و يسألهم: هل من المعقول أو المقبول , أن تتركوا عبادة الله الذي يملك كل شيء , و تذهبون لعبادة بشر عاديين ؟

وصف الله من يقول أن عيسى و أمه هم آلهة بأنهم كفار , ونحن نرى أن لفظ الكفر في القرآن يحمل دلالات ومعاني مختلفة عن المعاني المفهومة لدى المسلمين عامة , و سنقوم في مقالات قادمة بتوضيح هذا الخلط و الخطأ في فهم هذه الكلمة

ومع أننا نتحفظ على معنى كلمة ( كفر ) والتي تعني الخروج من دائرة الإيمان إلى نقيضه , فإننا سنعتمد المعنى المتداول للفظ ونحاول متابعة أوامر الله في التعامل مع غير المسلمين في هذه الآيات

وصف الله هؤلاء الذين يقولون أن عيسى و مريم هم آلهة بأنهم كفار , ومع أنهم كفار , لكنهم لم يطلب الله من النبي محمد اتخاذ أي إجراء فيه عنف ضدهم

ناقش الله هؤلاء بكل هدوء و احترام , و أوضح لهم أن عيسى و مريم هم مجرد بشر , و يجب على الناس أن لا يعبدوا بشرا مثلهم

من الواضح أن هؤلاء كانوا يعيشون في المدينة بجوار النبي محمد , وكانوا يعلنون أن عيسى و مريم هم آلهة , و يعيشون بحقوق كاملة و محفوظة , ولا أحد يتعدى عليهم , ولم يأمر الله نبيه بالتعدي عليهم

مدح الله كتب أهل الكتاب (التوراة و الإنجيل) و وصفها بأنها نور و هداية , و أن من أراد النجاح و الفلاح و النجاة في الحياة الآخرة , فعليه اتباع هذه الكتب العظيمة

وظيفة النبي محمد أن يشرح للناس ما في هذه الكتب العظيمة , لأن بعض رجال الدين السيئين قاموا بإخفاء ما في هذه الكتب من نور و هداية من الله

لم يأت النبي لنسف الكتب السابقة (التوراة و الإنجيل) , بل جاء ليحترمها و يقدسها و ينشر ما فيها من نور و هداية

من المؤكد و الواضح أن الله لم يطلب من غير المسلمين ترك دينهم و التحول إلى الإسلام , ولا توجد أي إشارة لهذا الطلب , بل العكس هو الصحيح
فقد طلب الله من غير المسلمين التمسك بدينهم و كتبهم بعد ترك عبادة البشر , وعبادة الله وحده

معنى لفظ ( الإسلام ) في القرآن 1

سورة البقرة

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

تأملات في الآيات

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
قال الطبري : أَخْلِصْ لِي الْعِبَادَة , وَاخْضَعْ لِي بِالطَّاعَةِ
خَضَعْت بِالطَّاعَةِ , وَأَخْلَصْت بِالْعِبَادَةِ لِمَالِك جَمِيع الْخَلَائِق وَمُدَبِّرهَا دُون غَيْره

من ملاحظة الآيات نجد ما يلي

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
هنا ارتبط لفظ الإسلام أو تعدى الفعل أسلم بحرف الجر (أسلمت لرب) , وهذا يشير إلى حالة الإسلام والاستسلام لله , ولو كان المقصود الدين الذي أتى به النبي محمد لكان كافيا أن يقول (أسلمت) , وقد ورد في أحاديث كثيرة أن النبي يقول للشخص أسلم , فيجيب أسلمت , وفي رسالات النبي للملوك جاء فيها : أسلم تسلم , ولم يقل أسلم لله , وقد كان الشخص يقول عند إسلامه : أسلمت , ولو قال الداخل للإسلام أسلمت لله لكان لكلامه معنى آخر لا يعني الدخول في الدين المرسل به النبي محمد عليه السلام

الكلام هنا عن إبراهيم عليه السلام , ومخاطبة الله له , و أمره له أن يسلم لله , ومن غير المعقول أن يطلب الله من نبيه إبراهيم الدخول في دين الإسلام الذي أتى به النبي محمد , لأن النبي محمد جاء بعد ألف سنة أو أكثر من خليل الله إبراهيم

من المؤكد أن لفظ الإسلام هنا لا يحمل معنى دين الإسلام الذي أتى به النبي محمد عليه السلام

لفظ الإسلام هنا يحمل حالة الخضوع لله و الاستسلام له


 وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

تأملات في الآيات

قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
قال الطبري : وَنَحْنُ لَهُ خَاضِعُونَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَة . انتهى كلامه

من ملاحظة الآيات نجد ما يلي

ارتبط لفظ الإسلام بحرف الجر (له) , وهي ملاحظة لم ينتبه لها الطبري وغيره , وهي تشير إلى حالة الإسلام لله تعالى , وحرف الجر (ل) أو (إلى) يرتبط مع فعل أسلم الذي يحمل معنى الاستسلام و الخضوع لله , ولا يأتي أبدا مع الفعل أسلم الذي يعني الدخول في دين الإسلام الذي جاء به النبي محمد

الكلام في الآيات السابقة عن إبراهيم و ذريته من الأنبياء عليهم السلام , وهم كلهم مؤمنون و أنبياء و صالحون , ووصية إبراهيم و يعقوب لبنيهما بأن يموتوا من المسلمين , لا يعني أنهم غير مؤمنين أو كفرة بالله , بل يأمرهم بحسن الاتصال بالله , و توقيره و تسليم الأمر له , وهو تأكيد على أن لفظ الإسلام هنا لا يحمل معنى الدين المقابل للكفر وعدم الإيمان , حاشاهم من ذلك

لا يمكن أن يحمل لفظ الإسلام هنا معنى الدين الذي أتى به النبي محمد عليه السلام

تفسير الطبري يطابق بشكل كبير المعنى المقصود للفظ الإسلام هنا

نستطيع القول أن اللفظ هنا يشير إلى حالة الإسلام والاستسلام لله و الخضوع له و ليس إلى دين الإسلام الذي جاء به النبي محمد عليه السلام

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

تأملات في الآيات

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
قال الطبري : ونحنُ له خاضعون بالطاعة, مذعنون له بالعبودية. انتهى كلامه

من ملاحظة الآيات نجد ما يلي

ارتبط لفظ الإسلام بحرف الجر (له) وهو ما يشير إلى حالة الإسلام لله تعالى و الخضوع له

لا يمكن أن يحمل لفظ الإسلام هنا معنى الدين الذي أتى به النبي محمد , لأن الكلام هنا عن أنبياء جاؤوا قبل رسول الله بمئات السنين

تفسير الطبري يطابق بشكل كبير المعنى المراد و سياق اللفظ ضمن الآيات

نستطيع القول أن اللفظ هنا يشير إلى حالة الإسلام والاستسلام لله و الخضوع له و ليس إلى دين الإسلام الذي جاء به النبي محمد عليه السلام

من كل الآيات السابقة نستطيع القول

أن ارتباط لفظ أسلم بحرف الجر ل أو إلى , يشير إلى معنى الاستسلام لله و الخضوع له و عبادته
وأن عدم ارتباط الفعل أسلم بحروف الجر هذه يجعله يعني الدخول في دين الإسلام الذي جاء به النبي محمد عليه السلام

ورود لفظ أسلم ومشتقاته في سياق الحديث عن الأمم السابقة و الأنبياء السابقين , يشير بكل تأكيد إلى حالة الإسلام و الاستسلام لله , ولا يمكن أن يحمل بأي شكل من الأشكال الدخول في دين الإسلام الذي بعث به النبي محمد عليه السلام , ولا يحتاج هذا الأمر إلى توضيح , فلا يحتاج النبي السابق إلى الإيمان بالنبي الذي لم يولد بعده , ولن يولد إلا بعد مئات أو آلاف السنين

معنى لفظ ( الإسلام ) في القرآن 2

يكمن الجمال دوما في خلق الله , والكمال في صفات الله و كلامه و رسالاته , و أي محاولة للتجديد الديني لا تنطلق من مسلمة أساسية وهي : أن الكمال لله وحده , و الخلاص في أوامره و نواهيه التي وضعها في كتابه , فهي محاولة محكوم عليها بالفشل منذ البداية, لفظ الإسلام مثلا هو نموذج صارخ للتحريف المتعمد لجماله و عموميته و عالميته, ومحاولة قسره على معاني لا يحتملها

نحاول في هذه المقالات إعادة توضيح معنى هذا اللفظ

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
سورة البقرة

تأملات في الآيات

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
قال الطبري : وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِك خَاضِعَيْنِ لِطَاعَتِك , لَا نُشْرِك مَعَك فِي الطَّاعَة أَحَدًا سِوَاك , وَلَا فِي الْعِبَادَة غَيْرك . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِسْلَام الْخُضُوع لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ

من ملاحظة الآيات نجد ما يلي

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
المتكلم و الداعي هنا هما إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام اثناء بنائهما للبيت

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ
يلاحظ في كلا اللفظين أنهما ارتبطا بحرف الجر (لك) , وهي تشير و تؤكد إلى معنى الاستسلام لله و توحيده و الانقلاب إليه وحده , وهو ما شرحه ووضحه الطبري , لكن بدون أن ينتبه أو يؤكد على وجود حرف الجر

ورد لفظ الاسلام هنا مع أنبياء سابقين للنبي محمد و دعوته , و التصق كذلك بحرف الجر (لك) , وهو ما يؤكد أن اللفظ يعني إسلام الوجه لله

لا يحمل هنا لفظ الإسلام أي إشارة إلى دين الإسلام الذي يتضمن الإيمان بالنبي محمد و أركان الإسلام من صلاة وصيام و حج , فهذه العبادات نشأت مع دعوة النبي محمد عليه السلام , ولم تكن قبله , وليس من المعقول أو الممكن أن يكون إبراهيم و إسماعيل يقيمون الصلوات الخمس و يصومون رمضان

إن جعل لفظ الإسلام هنا حاملا لمعنى الدين الذي اتى به النبي محمد , ونقيضه حسب التعريف الفقهي هو الكفر و الأديان الباطلة الغير معترف بها من قبل المنظومة الدينية الرسمية , يجعل إبراهيم عليه السلام و ابنه كفرة , و يدعون الله أن يهديهم و يدخلهم إلى الإسلام , حاشاهم من ذلك

حالات الزهد و التقوى و الإحسان و غيرها هي حالات تحتاج إلى عمل دؤوب و عبادات كثيرة كي يصفو القلب و يتحقق الإنسان بهذه الحالات , ولذلك يدعو النبيين و الصالحين أن يوفقهم الله لتلك الحالات , وما فعله إبراهيم هنا لا يتعدى هذا المجال , من دعوة الله أن يهيئ له هذا المقام العالي المسمى الإسلام

كما ورد في كثير من الأحاديث الواردة عن النبي محمد عليه السلام حين كان يدعو الله أن يهديه إلى الصالح من العمل و المقامات من زهد و إحسان و غيرها

و كمال الإسلام لله تعالى , يكون بالتسليم الكامل له و عبادته مخلصا له الدين , وهو المعنى المراد من لفظ الإسلام في هذه الآيات الكريمة

نستطيع القول هنا و بكل تأكيد أن لفظ الإسلام هنا يشير إلى حالة الإسلام لله و ليس إلى دين الإسلام المتضمن الإيمان بالنبي محمد عليه السلام والقرآن الكريم

مقدمات في فهم القرآن 2

يزعم المختصون بالعلوم الدينية أن القرآن حمال أوجه , أي يقبل معاني كثيرة قد لا نستطيع ضبطها و تحديدها , و يرى هؤلاء أن هذه ميزة في القرآن , لكن في الحقيقة هذا انتقاص عظيم لكلام الله الخالد الأبدي , وعجز هؤلاء عن فهم كلام الله و تحديد معانيه لا يعني نسب النقص إلى كلام الله

مقدمة لابد منها في تاريخ العلوم الإسلامية

كتب عثمان بن عفان القرآن و جعله في مصحف واحد و نشره في أقاليم الدولة الإسلامية الناشئة , وكانت كل العلوم المتعلقة بالقرآن من تفسير و قراءات و فقه و وأحاديث وغيرها غير مكتوبة , وتنتقل بشكل شفهي من جيل إلى جيل

ومن المعلوم و المؤكد عدم وجود جامعات و مدارس لدى العرب في ذلك الوقت , و أن جل العرب كانوا أميين , وكانوا بدوا رحلا

و أن الحفظ و الترتيب و التنسيق للأفكار و الكتب و الشروح للنصوص الدينية هو شيء لم تعرفه العرب وهو شيء غريب عليها , ولم يدخل إلى الثقافة العربية إلا بعد الفتوحات الإسلامية و اختلاط العرب بغيرهم من الأمم , من مثل الروم و الفرس , ونقلوا عنهم هذه المناهج في ترتيب الأمور الدينية

و المتتبع للكتب الموجودة و التي وصلتنا في يومنا هذا يجد ندرة الكتب التي تم تأليفها في العصر الأموي , واستحالة وجود كتاب واحد من عصر الخلافة الراشدة , و أن التأليف و الكتابة في المجال الديني لم تبدأ إلا مع نهاية العصر الأموي و بداية العصر العباسي الذي بدأ بعام 132 هجري

وعلى سبيل المثال: لم يصلنا في مجال التفسير أقدم من تفسير معاني القرآن للفراء , وهو كتاب فيه شيء من الترتيب و التبويب , و شروحه بسيطة وليس فيها تكلف , وتظهر فيها البساطة العربية البدوية , و يمكن الحصول على نثرات من كتب و تعليقات بسيطة على القرآن أقدم من هذا التفسير , لكن كتفسير كامل للقرآن , فلا أظن وجود كتاب أقدم منه , والفراء توفي 207 هجري , وهو ممن ولد وعاش ومات في العصر العباسي

ومن بعده توالت التفاسير , وكان أعظمها على الإطلاق هو تفسير الطبري الذي توفي 310 هجري

الفترة الشفهية للعلوم الدينية في مجال التفسير و التي تناقل فيها الناس هذه العلوم مشافهة بدون كتابة و تقييد , امتدت من نشوء الإسلام إلى حدود عام 200 هجري , أي بعد قرنين كاملين من نشوء الإسلام

وقد شرحنا في مقال آخر عن طبيعة العرب عموما , وكرههم للحفظ و الخضوع للدولة و التعلم , وحبهم وعشقهم للصحراء و الحرية , وانتقال علوم التفسير عن طريق هؤلاء العرب الأميين على مدار قرنين بدون كتابة و تقييد , يجعل مفاهيم القرآن و مصطلحاته غامضة و مشوشة و غير مفهومة للأجيال التالية

و لقد حاول رجال الدين في الدولة العباسية بداية توثيق هذه العلوم الشفهية , فاصطدموا بمصطلحات مشوشة المعنى , ولا يدري أحد ما هو معناها المقصود و الأصلي , و القارئ لتفسير الطبري يجد هذا التشويش منتشرا في تفسيره , فتجد أحيانا في معنى الكلمة الواحدة أو الآية عشرات المعاني , ولا يستطيع الطبري مع جلالة علمه و قدره ضبط المعنى المقصود و الصحيح , فتراه في نهاية شرحه يقول : وكل هذه المعاني مقبولة , و أنا أرجح و أميل إلى المعنى الفلاني

ومن هذا الخلط والتشوش في معاني الكلمات و الآيات , ظهرت القاعدة التي تقول : أن القرآن له معاني كثيرة لا يمكن ضبطها و هي كلها مقبولة

العجز في فهم القرآن على القدماء أجبرهم على تتبع أية آثار منقولة عن النبي لمحاولة فهم معاني القرآن , ونحن نعلم أن كل ما نقل عن النبي لغاية نشوء الدولة العباسية كان نقلا شفهيا , والشفهي يدخله النسيان و الخلط و الكذب و الهوى و الغايات الشخصية و السياسية

هنا ظهرت فئة المختصين بعلم الحديث , والتي تحاول معرفة الحديث الصحيح من الخاطئ , وحاولت ضبط هذه الأمر من خلال بعض القواعد , وترتكز هذه القواعد على أمرين أساسيين

الأمر الأول: وهو ما يعرف بالسند , من مثل: حدثني أحمد عن جمال عن عبد الله عن النبي محمد , فيجب حسب علم الحديث أن يكون كل هؤلاء الأشخاص أناس صادقون وجيدون و لديهم سيرة دينية جيدة , حتى نقبل الحديث الذي نقلوه لنا , وقد استطاع هؤلاء المختصون تدقيق قسم جيد لا بأس به من هذه الأسانيد و الأشخاص

الأمر الثاني : هو محتوى الحديث

ولنفترض أن هناك حديث يقول : افعلوا هذا ,  لأنه هذا عمل جيد

وقد رأينا قبل قليل أن القرآن يقبل معاني كثيرة جدا لنفس الجملة , ولا يمكن أبدا ضبط معانيه بمعنى واحد

و إذا أردنا ضبط و مقارنة الحديث بالقرآن لمعرفة: هل يطابق الحديث القرآن أم يخالفه , فإنا لا نستطيع ذلك , لأن جميع المفسرين و الفقهاء و كل المختصين بالعلوم الدينية يقولون: ان القرآن يقبل معاني لا حصر لها

وبالتالي لم يستطع المختصين بالحديث النبوي معرفة إن كانت الأحاديث موافقة للقرآن أم مخالفة له , فتركوا هذا الباب و لم يناقشوه , خوفا من رفضهم لحديث قد يكون موافقا للقرآن , وسبب ذلك هو ضعفهم و عدم قدرتهم على ضبط المعنى القرآني

هذا هو باختصار سبب تخبط المختصين بعلوم الفقه و الحديث و العقائد وغيرها من العلوم التي بنيت على القرآن و الحديث

وفهم و معرفة هذه المشكلة و تشخيصها بشكل جيد يوضح لنا الطريق الذي يجب سلوكه لحل هذه المشكلة

تؤمن جمعية اقرأ الإسلامية أن الخطوة الأولى تكمن في ضبط مصطلحات و مفاهيم ومعاني القرآن الكريم ,من مثل

الإسلام , الإيمان , النفاق , الكفر , الصلاة , الزكاة , الحلال , الحرام , إلخ
وهذه المفاهيم كما نرى يستطيع المتعمق في القرآن أن يضبطها بكل سهولة , ونحن سنقوم بنشر مقالات متصلة توضح هذا اللبس في هذه المفاهيم , ونحاول توضيحها بشكل جيد

بعد ضبط المفاهيم الدينية و معرفة معنى الآيات الحقيقي حسب ما هو وارد في القرآن , نستطيع بعدها مطابقة الأحاديث المنسوبة للنبي و معرفة الصحيح من المكذوب

ونحن نؤمن ونعتقد و نجزم , أنه بدون هذه الخطوة من مطابقة الأحاديث و الحكم عليها حسب القرآن , فستبقى المنظومة الدينية الإسلامية في تخبط عظيم , وسبب ذلك كله

اختلاط الإلهي الخالد الدائم العظيم الحكيم , بالبشري الضعيف الخاطئ القاصر

و صفة الله و كلامه هي الخلود و الكمال , و صفة البشر هي الفناء و النقص