مقدمات في فهم القرآن 2

يزعم المختصون بالعلوم الدينية أن القرآن حمال أوجه , أي يقبل معاني كثيرة قد لا نستطيع ضبطها و تحديدها , و يرى هؤلاء أن هذه ميزة في القرآن , لكن في الحقيقة هذا انتقاص عظيم لكلام الله الخالد الأبدي , وعجز هؤلاء عن فهم كلام الله و تحديد معانيه لا يعني نسب النقص إلى كلام الله

مقدمة لابد منها في تاريخ العلوم الإسلامية

كتب عثمان بن عفان القرآن و جعله في مصحف واحد و نشره في أقاليم الدولة الإسلامية الناشئة , وكانت كل العلوم المتعلقة بالقرآن من تفسير و قراءات و فقه و وأحاديث وغيرها غير مكتوبة , وتنتقل بشكل شفهي من جيل إلى جيل

ومن المعلوم و المؤكد عدم وجود جامعات و مدارس لدى العرب في ذلك الوقت , و أن جل العرب كانوا أميين , وكانوا بدوا رحلا

و أن الحفظ و الترتيب و التنسيق للأفكار و الكتب و الشروح للنصوص الدينية هو شيء لم تعرفه العرب وهو شيء غريب عليها , ولم يدخل إلى الثقافة العربية إلا بعد الفتوحات الإسلامية و اختلاط العرب بغيرهم من الأمم , من مثل الروم و الفرس , ونقلوا عنهم هذه المناهج في ترتيب الأمور الدينية

و المتتبع للكتب الموجودة و التي وصلتنا في يومنا هذا يجد ندرة الكتب التي تم تأليفها في العصر الأموي , واستحالة وجود كتاب واحد من عصر الخلافة الراشدة , و أن التأليف و الكتابة في المجال الديني لم تبدأ إلا مع نهاية العصر الأموي و بداية العصر العباسي الذي بدأ بعام 132 هجري

وعلى سبيل المثال: لم يصلنا في مجال التفسير أقدم من تفسير معاني القرآن للفراء , وهو كتاب فيه شيء من الترتيب و التبويب , و شروحه بسيطة وليس فيها تكلف , وتظهر فيها البساطة العربية البدوية , و يمكن الحصول على نثرات من كتب و تعليقات بسيطة على القرآن أقدم من هذا التفسير , لكن كتفسير كامل للقرآن , فلا أظن وجود كتاب أقدم منه , والفراء توفي 207 هجري , وهو ممن ولد وعاش ومات في العصر العباسي

ومن بعده توالت التفاسير , وكان أعظمها على الإطلاق هو تفسير الطبري الذي توفي 310 هجري

الفترة الشفهية للعلوم الدينية في مجال التفسير و التي تناقل فيها الناس هذه العلوم مشافهة بدون كتابة و تقييد , امتدت من نشوء الإسلام إلى حدود عام 200 هجري , أي بعد قرنين كاملين من نشوء الإسلام

وقد شرحنا في مقال آخر عن طبيعة العرب عموما , وكرههم للحفظ و الخضوع للدولة و التعلم , وحبهم وعشقهم للصحراء و الحرية , وانتقال علوم التفسير عن طريق هؤلاء العرب الأميين على مدار قرنين بدون كتابة و تقييد , يجعل مفاهيم القرآن و مصطلحاته غامضة و مشوشة و غير مفهومة للأجيال التالية

و لقد حاول رجال الدين في الدولة العباسية بداية توثيق هذه العلوم الشفهية , فاصطدموا بمصطلحات مشوشة المعنى , ولا يدري أحد ما هو معناها المقصود و الأصلي , و القارئ لتفسير الطبري يجد هذا التشويش منتشرا في تفسيره , فتجد أحيانا في معنى الكلمة الواحدة أو الآية عشرات المعاني , ولا يستطيع الطبري مع جلالة علمه و قدره ضبط المعنى المقصود و الصحيح , فتراه في نهاية شرحه يقول : وكل هذه المعاني مقبولة , و أنا أرجح و أميل إلى المعنى الفلاني

ومن هذا الخلط والتشوش في معاني الكلمات و الآيات , ظهرت القاعدة التي تقول : أن القرآن له معاني كثيرة لا يمكن ضبطها و هي كلها مقبولة

العجز في فهم القرآن على القدماء أجبرهم على تتبع أية آثار منقولة عن النبي لمحاولة فهم معاني القرآن , ونحن نعلم أن كل ما نقل عن النبي لغاية نشوء الدولة العباسية كان نقلا شفهيا , والشفهي يدخله النسيان و الخلط و الكذب و الهوى و الغايات الشخصية و السياسية

هنا ظهرت فئة المختصين بعلم الحديث , والتي تحاول معرفة الحديث الصحيح من الخاطئ , وحاولت ضبط هذه الأمر من خلال بعض القواعد , وترتكز هذه القواعد على أمرين أساسيين

الأمر الأول: وهو ما يعرف بالسند , من مثل: حدثني أحمد عن جمال عن عبد الله عن النبي محمد , فيجب حسب علم الحديث أن يكون كل هؤلاء الأشخاص أناس صادقون وجيدون و لديهم سيرة دينية جيدة , حتى نقبل الحديث الذي نقلوه لنا , وقد استطاع هؤلاء المختصون تدقيق قسم جيد لا بأس به من هذه الأسانيد و الأشخاص

الأمر الثاني : هو محتوى الحديث

ولنفترض أن هناك حديث يقول : افعلوا هذا ,  لأنه هذا عمل جيد

وقد رأينا قبل قليل أن القرآن يقبل معاني كثيرة جدا لنفس الجملة , ولا يمكن أبدا ضبط معانيه بمعنى واحد

و إذا أردنا ضبط و مقارنة الحديث بالقرآن لمعرفة: هل يطابق الحديث القرآن أم يخالفه , فإنا لا نستطيع ذلك , لأن جميع المفسرين و الفقهاء و كل المختصين بالعلوم الدينية يقولون: ان القرآن يقبل معاني لا حصر لها

وبالتالي لم يستطع المختصين بالحديث النبوي معرفة إن كانت الأحاديث موافقة للقرآن أم مخالفة له , فتركوا هذا الباب و لم يناقشوه , خوفا من رفضهم لحديث قد يكون موافقا للقرآن , وسبب ذلك هو ضعفهم و عدم قدرتهم على ضبط المعنى القرآني

هذا هو باختصار سبب تخبط المختصين بعلوم الفقه و الحديث و العقائد وغيرها من العلوم التي بنيت على القرآن و الحديث

وفهم و معرفة هذه المشكلة و تشخيصها بشكل جيد يوضح لنا الطريق الذي يجب سلوكه لحل هذه المشكلة

تؤمن جمعية اقرأ الإسلامية أن الخطوة الأولى تكمن في ضبط مصطلحات و مفاهيم ومعاني القرآن الكريم ,من مثل

الإسلام , الإيمان , النفاق , الكفر , الصلاة , الزكاة , الحلال , الحرام , إلخ
وهذه المفاهيم كما نرى يستطيع المتعمق في القرآن أن يضبطها بكل سهولة , ونحن سنقوم بنشر مقالات متصلة توضح هذا اللبس في هذه المفاهيم , ونحاول توضيحها بشكل جيد

بعد ضبط المفاهيم الدينية و معرفة معنى الآيات الحقيقي حسب ما هو وارد في القرآن , نستطيع بعدها مطابقة الأحاديث المنسوبة للنبي و معرفة الصحيح من المكذوب

ونحن نؤمن ونعتقد و نجزم , أنه بدون هذه الخطوة من مطابقة الأحاديث و الحكم عليها حسب القرآن , فستبقى المنظومة الدينية الإسلامية في تخبط عظيم , وسبب ذلك كله

اختلاط الإلهي الخالد الدائم العظيم الحكيم , بالبشري الضعيف الخاطئ القاصر

و صفة الله و كلامه هي الخلود و الكمال , و صفة البشر هي الفناء و النقص