كان المجتمع الذي يقوده النبي محمد صلى الله عليه و سلم , مجتمعا حرا منفتحا لأبعد الحدود , لا حدود لحرية التفكير والاعتقاد فيه, نسلط الضوء هنا على جانب عظيم من هذا المجتمع الذي تم التعتيم عليه لقرون طويلة

الكفار و التعامل معهم في القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (57)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

نحاول في هذه البحوث تتبع آيات القرآن في كيفية التعامل مع الكافرين , و أحكام الكافرين في المجتمع المسلم حسب ما ورد في القرآن الكريم , و نود التأكيد على أن المنهج الذي نتبعه في فهم القرآن و التعامل معه يقوم على هذه القاعدة

القرآن الكريم هو المصدر الأساسي لفهم الإسلام , وكل ما وافق القرآن من الحديث يعتبر مصدرا داعما و مؤكدا و شارحا للقرآن , وكل ما خالف القرآن فهو مرفوض ولا يعتبر نبويا

تتحدث هذه الآيات عن بعض أهل الكتاب و الكفار في زمن النبي محمد في المدينة المنورة , وبعض اعتقاداتهم و تصرفاتهم في داخل المجتمع المسلم

لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ
يجب التذكير أن الآية 57 حددت الأصناف التي تحدثت الآيات التالية عنها , وهم أهل الكتاب و الكفار, و الآية تطلب من المؤمنين عدم اتخاذ هؤلاء أولياء (أصدقاء و أصحاب و موالي يستعينون بهم وقت الحاجة)

وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ
بعض أهل الكتاب و الكفار الموجودون في المدينة , كانوا يزورون المؤمنين و يدخلون عليهم تجمعاتهم , فهذه الآية تشير إلى تواصل يومي مع هؤلاء (وإذا جاؤوكم), وتحكي أنهم يبطنون في داخلهم غير ما يعلنون , و يقولون للمؤمنين أنهم آمنوا , ثم يخرجون للخارج و يمارسون الكفر و الفساد في المجتمع المسلم

وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ
هذا الجزء من الآية حكى عن مسارعتهم في نشر الفساد في المجتمع المسلم , و أكل المال الحرام , وكلمة (وترى) تؤكد وجود تواصل يومي مع هؤلاء

وهذان التأكيدان يؤكدان وجود تواصل يومي و حياتي بين المؤمنين و أهل الكتاب و الكافرين (إذا جاؤوكم , وترى)

لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
يشجع الله الأحبار و الربانيين على ضبط هؤلاء ومنعهم من الفساد و الإفساد في الأرض ,و يستنكر عدم قيام الأحبار بدورهم الديني في توجيه الرعية

وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا
أشارت الآيات إلى أن بعض اليهود في المدينة المنورة , كان تنزل القرآن يزيدهم طغيانا و كفرا , و يزدادون فسادا و عداوة ,  وحكت عن وجود اعتقادات باطلة و مسيئة بحق الله تعالى لدى هذه الفرقة من اليهود فقال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ , ومن المعلوم أن اليهود عموما لا يقولون بهذا الاعتقاد , و يظهر من الآية أن هذه الفرقة من اليهود كانت تعيش في المدينة المنورة

وهذه الفرقة من اليهود كانت تسعى دوما لإشاعة الفتن في المدينة المنورة , و إشعال الحروب , ولكن الله بحكمته كان يطفئ كيدهم و سعيهم لهذا الفساد

من التحليل و التعليقات السابقة نستطيع ملاحظة بعض الأشياء و الملاحظات

كان الكفار و هذه الفرقة من اليهود أصحاب فتن وفساد و سعي للحروب داخل المجتمع المسلم في المدينة
لم يكن تنزل القرآن و الخير من السماء  ووجود النبي محمد بينهم كنبي و مصلح داخل المجتمع المسلم عاملا إيجابيا في حياة هؤلاء, بل بالعكس , كانت هذه الأشياء تزيدهم طغيانا وفسادا , كونهم أناسا فاسدون من الداخل
كان لدى هؤلاء أقوال في حق الله و اعتقادات فاسدة , يعلنونها علنا داخل المجتمع المسلم , بدون مراعاة لمشاعر المسلمين و عقائدهم

ومع كل ذلك فقد تضمن الآيات توجيهات ربانية لكيفية التعامل مع هذين الصنفين داخل المجتمع المسلم الذي يقوده النبي محمد صلى الله عليه و سلم , فقال تعالى

وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ
ترك الله تعالى الحكم على ما في قلوب هؤلاء إليه وحده

وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
حكم الله على أفعال هؤلاء بالسوء , وأن ذلك هو من شر ما يفعله الإنسان

لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
طلبت من أرباب الشؤون الدينية لدى هؤلاء التدخل لكف هؤلاء المفسدين عن فسادهم , ولم تطلب من النبي التدخل ومنع هؤلاء من الفساد, وإنما لم يقم هؤلاء (الربانيون و الأحبار ) بدورهم المطلوب منهم , فهذا شيء خاطئ و سيء و تقصير غير مبرر

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ
ردت الآية على هذه الطائفة من اليهود ردا دينيا , و قالت أن الله كريم لا حدود لكرمه , ولم يطلب الله من نبيه معاقبة هؤلاء على الإساءة لرب العزة في المجتمع المسلم.

وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ
إحدى أهم نتائج خبث الطوية و الفساد المتعمد , أنها تبدأ بصاحبها فتجعل حياته جحيما لا يطاق , وهذه العقوبة تكفيهم من الله , ولم يطلب الله من نبيه التدخل لقمع هؤلاء و إجبارهم على الخضوع لما أنزل الله بالقوة, فمن لم تصلحه الكلمة , فلن يصلحه السيف

كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
والله لا يحب الحرب و الفساد و سفك الدماء , إلا إذا كان لا بد من ذلك , وهنا يخبر الله نبيه أن يكون صبورا على فسادهم , وأنه وحده تعالى سيطفئ كل مشاريعهم لإشعال الحروب, وتخطيطهم لنشر الفساد في المجتمع المسلم, ومرة أخرى لم يطلب الله من نبيه التدخل لمنع هذه المظاهر في المجتمع المسلم

من كل ما سبق نستطيع استخلاص بعض الخصائص و الفوائد و التصورات حول المجتمع المسلم في زمن النبي , وكيفية التعامل مع غير المؤمنين

تحتفظ الجماعات الغير مؤمنة في المجتمعات المسلمة بكامل حرياتها , ولها الحرية الدينية في اعتقاد و إظهار ما تشاء من عقائد, سواء خالفت العقائد الإسلامية أم وافقتها

لا مكان للعنف في المجتمع المسلم ضد الآخر المختلف , أيا كانت أفعاله و أعماله واعتقاداته , وهناك نظام عام و دولة هي التي تتولى ضبط الأمور الأمنية و المعاشية

لا مجال و لا مكان لتدخل المسلمين في حياة غير المسلمين الدينية , ولا صلاحية لديهم لفعل أي شيء , سواء أعجب المسلمين أم لم يعجبهم

تعود مرجعية الجماعات الغير مؤمنة في المجتمعات المسلمة حصرا إلى قياداتها الدينية , وهي وحدها المخولة بمحاسبة و توجيه هذه الرعية دينيا و اجتماعيا

لا يوجد في المجتمعات المسلمة عقيدة شمولية , وتوجه اجتماعي و ديني واحد , بل للجميع الحرية في قول و اعتقاد ما يشاؤون , بدون الخوف من أي سلطة